نلسون مانديلا سجينا وقائدا

 

"نيلسون مانديلا: "هناك نصر لا يعلم مجده سوى من انجزه

بقلم: ديانا السلقان

في رحلة كتابه "الطريق الطويل الى الحرية" تتجلى امام القارىء مدى الصعوبات الجمة التي تتكبدها الشعوب في صراعاتها على الحرية. وكان مانديلا  قد امضى نصف مدة نضاله في السجن فنمضي معه في كتابه الى تلك الجزبرة ببردها وحرها وعذاباتها وعزلتها. لا يسعنا الآن الكتابة عن تلك التجربة الفريدة واعطائها حقها لكنني أقف عند حادثتن في كتابه اشغلت بال نلسون مانديلا واستوقفتني أنا بدوري ورأيت فيهما العديد من معاني الانسانية واسرار النزاعات.  "هناك نصر لا يعلم مجده سوى من انجزه"  تلك هي عبرة مانديلا للاسير الذي لايعلم احد عن نجاحاته المتعددة مع السجن والسجان من اجل الحفاظ على كرامته وانسانيته.

 الحادثة الاولى التي اخترت القاء الضوء عليها هي في سنة 1970 حين جاء مسوؤل سجن اشتهر بوحشيته وقبضته الحديدية على المساجين اسمه "بادنهورست". فقلب المائدة علي مانديلا ورفقائه واعاد ظروف السجن الى ما كانت عليه في السنوات العشر السابقة لاغيا بذلك كل انجازاتهم في معركة تحسين الظروف التي امتدت على مدى عشرات السنين. فلم يسمح بالكلام بين المساجين ولا بين السجانين والمساجين، كان  العمل الشاق هو فقط المسموح. كان سجانوه يتبارون بالقاء الاهانات والزجر وأصبحت الرقابة شديدة وتكررت اقتحامات الزنازين والتحرشات من قبل سجاني "بادنهورست" الذي انتقاهم لوحشيتهم. تم الغاء العديد من الزيارات العائلية واللقاءات مع المحامين والغيت مزايا السماح بالدراسة و القراءة.

لكن تم تسريب تلك الاخبار الى خارج السجن وبعد سنة كاملة واشهر عدة جاء قرار نقل "بادنهورست". وهنا كانت المفاجاة التي تحدث عنها مانديلا.

استدعى مسوؤل السجن "بادنهورست" نيلسون مانديلا الى مكتبه للقاء العقيد "ستاين"  ليستمع الأخير الى مطالب مانديلا لتحسين ظروف السجن.  وقبل ان يهم مانديلا الى الرحيل، فما كان من "بادنهورست" الا ان استدار وقال لمانديلا: "اتمنى لك ولشعبك حظا طيبا". صعق مانديلا من هذه العبارة ولم يفهم كيف لشخص امضى حياته في اذلال الاخرين ان يتفوه بمثل تلك الاماني.

بقي صدى تلك العبارة في ذهن مانديلا وقتا طويلا. كانت بالنسبة لمانديلا لحظة تكشفت فيها الطبيعة الانسانية. كانت  بالنسبة له لحظة منعشة في تاريخ الصراع. فمن بدى له  متوحشا وذو دما باردا أظهر احتراما وتعاطفا و قدرة على التحول. تبادرت لمانديلا فكرة ان "بادنهورست" ليس شريرا بطبيعته بل ان النظام السياسي اللانساني قد قمع انسانيته. هو تصرف بوحشية لانها كانت السلوك الذي يتم مكافأته.

فكم من نزاعات يتم فيها شيطنة الطرف الآخر وتجريمه وتجريده من انسانيتة. كثيرا ما يتم تغييب الطرف الآخر واهماله تماما. الا ان مانديلا اثناء دعوته الى حقوق شعبه لم يدع الى شيطنة الآخر بل رأى امكانية وقدرة الطرف الآخر على التحول. فاذا كان سجانه المتوحش قادرا على رؤية عدالة قضيته فكم من أمل تحمل تلك الرسالة وما احوجنا لمثل تلك الرسالة.    

أما الحادثة الثانية فحدثت في فترة لاحقة حيث عزلة السجن الموحشة تحجب احداث التاريخ،  كان يحاول مانديلا جاهدا معرفة ما يحدث خارج السجن. فجاءته الاخبار على شكل افواجا جديدة من شبان صغار اعتقلوا اثر انتفاضة عارمة اجتاحت البلاد عام 1976 بعد فرض قانون يحظر التعليم بلغة السود الاصلية. كانت تلك لحظات تعرف فيها مانديلا على الجيل الجديد من المناضلين فوصفهم: "بالشجعان  والمتحمسين والمتهورين". هؤلاء الشباب فاجأوا الجميع بمن فيهم سجانيهم. هولاء الشباب من "حركة الضمير السوداء"  اعتبروا مانديلا و رفقائه في السجن معتدلين ومتراخين في صراعهم ضد العنصرية. لم يستطع احد فرض سيطرته عليهم. كانوا يصرخون طوال الوقت و لا يلتزمون بأي من الاوامر. نادى مسؤول السجن مانديلا وطلب منه التحدث معهم من اجل ان ينصاعوا لاوامر السجن فرفض مانديلا فعل ذلك.  شاهد مانديلا أحد هؤلاء الشباب و هو خارج من مكتب مسؤول السجن.  رفض الشاب ذو الثامنة عشرة خلع قبعة السجن امام الضابط وهو ما كان يعتبر مخالفا للقوانين وحتى أنه لم يقف عند دخول الضابط الغرفة. وحين طلب منه خلع قبعته اجاب الشاب: "لما أفعل ذلك؟" لم يصدق مانديلا ما رآه . اخبره الضابط انه يخالف القوانين. اجابه الشاب: "ولماذا تضعون تلك القوانين؟ الى ماذا تهدف هذه القوانين؟"  فانزعج الضابط من هذه الاسئلة وغادر الغرفة طالبا من مانديلا التحدث اليه ليلتزم بالأوامر. رفض مانديلا واومأ برأسه في اشارة للشاب انه يسانده.

تلك الضرواة والشدة والاصرار الذي شهده مانديلا في الشباب الجدد استوقفته وجعلته يتذكر قوله لأحد رجال الامن ايام محاكمته الشهيرة في "ريفونا": "اذا لم تتراجع الحكومة عن سياساتها العنصرية فان الاجيال القادمة من مناضلي الحرية الذين سيتسلمون الراية من بعدنا سيجعلون السلطات تحن لايامنا".

وتلك هي السمة السائدة في النزاعات الدائرة بين الشعوب. فكلما تعاقبت الأجيال المطلة على الصراع اصبحت أكثرشراسة في تعبيرها عن رغبتها في الحرية وزادت جرأتها في الصراع  ورفضها للآخر. وكلما امتد زمن الصراع كلما ازدادت اسباب الكراهية وتصاعدت حدة المجازفة. فطرف ليس لديه شيء يخسره وطرف يريد الأطباق على كل شيء وانهاء الصراع لمصلحته. وبالتالي يلتهب الصراع ويتصاعد العنف المتبادل. كان مانديلا شاهدا لهذه الظاهرة الأليمة واصبحنا نحن شاهدون لهذا التصاعد المحتم بانتظار اللحظة الحاسمة.

ومن المهم معرفة الطريقة التي تعامل بها مانديلا مع تلك الحركة. كانت تلك الحركة الشبابية  من الشبان  السود تنقصهم الحنكة السياسية ورحابة الصدر، فرفضوا التعامل مع الأعراق الأخرى المشاركة في الصراع ومع الأحزاب المختلفة  وكانت تنقصهم المعرفة بتاريخ صراعهم الطويل. قرر مانديلا الاستماع اليهم  جيدا في البداية ليتعرف على آرائهم وأفكارهم. لم يكن يخشى المنافسة على قيادة الصراع بل أراد انهائه. ومن ذلك المنظور رأى مانديلا في الأجيال الجديدة أملا جديدا واستجابة طبيعية لظروف تزداد صعوبة مع الزمن. قررمانديلا مساندتهم  وتزويدهم بما ينقصهم من خبرة ومعرفة. فحاورهم وطمأنهم وبمرور الوقت تقبل أحدهم الآخر و انتقل قسم منهم الى حزبه وانتقل أشخاص من حزبه الى حركتهم. كانت بالنسبة له حركة الشباب أثراء للمشهد وليست منافسة لقيادة الصراع.  وحافظ على وحدة وتعاقب الأجيال ووحدة شعبة.

فكما كان السجان القاسي مبعثا لللأمل بالنسبة له، كانت حركة الشباب الصاعدة سببا للتفاؤل.  هذه روعة مانديلا و احد اسرار نجاحه في قيادة الصراع على ما اعتقد. لم يفقد نلسون مانديلا يوما الأمل الذي وجده في احلك الظروف ولم يحد يوما عن خط واضح صريح في تغليب كفة انهاء الصراع على حساب مصلحته الخاصة. قضى مانديلا نحبه ومضى فخسرت الأرض مناضلا واكتسبت الانسانية رسولا لها.  انحني اليوم امام هذا القائد العظيم والانساني الفذ.  ولعلنا بامس الحاجة لفهم تجربته الخلاقة.

 

Comments

Popular posts from this blog

Sumud: Each Gen Has Its Gem

The Sacrifice: Two Fronts. The Trojan Horse of Gaza: A Red Heifer?

Gaza Has Fragmented Me